محمد منصور
ماذا تفعل عندما يقع بصرك على مجموعة من النمل أو نملة وهي تنشط؟.. أتتدخل في شأنها وتعوق طريقها، أم تتأملها بتدبر وإعجاب متفكرا في عظمة الخالق سبحانه؟.. أتحاول تحطيمها بإصبعك مستمتعا بقوتك الهائلة عليها - كنوع من الإفتراء العبثي الإنساني - أم تتركها وشأنها في عالمها؟..
تلك النملة، التي قد تحتقرها أو تهمل وجودها من الوجود (أو من إدراكك للوجود)، هل فكرت لوهلة أنها قد تكون على قدر كبير من الأهمية، وأن لها مخاوف ومطالب تستوجب الإستماع والإحترام والإستجابة - بتوجيه من رب العالمين!؟..
أتذكر قصة قرآنية قصيرة، ولكن فيها الحكمة والعبرة، قصة نملة خرجت تحذر قومها من تحطيم {سليمان وجنوده} لهم {وهم لا يشعرون}.. أمر غريب؛ فبعد أن تكلم سليمان عليه السلام عن علمه ب{منطق الطير}؛ و بعد أن حشر له {جنوده من الجن والإنس والطير..}؛ ووسط ذلك المشهد القرآني المهيب - إذا به يسمع ما تقوله تلك النملة - بلغة ما يعلمها الله - ويفهمه، فيتبسم {ضاحكا من قولها}، ومن ثم، يستجيب لمخاوفها بحماية فصيلها من الدمار، ويشكر ربه على النعمة!..
العجيب أن النملة تعرف سليمان بالإسم، وتعرف أن له جنود، وتعرف أنهم قد يدمروا النمل، وتعرف أنهم قد يفعلوا ذلك "وهم لا يشعرون"! فقالت تحذيرها الشهير للنمل، وكلهم يعرفون ما تقصد! وربما كان ذلك من أسباب ضحك سليمان عليه السلام! وربما أنها تعرف أكثر كثيرا من ذلك، ولكن القرآن لم يستفض في الأمر، وكانت الإشارة هنا كافية لمن يريد التفكر والتدبر.
النملة صغيرة حقا، ولكن الله عز وجل قد أعطاها حيزا كبيرا من الإهتمام بعد أن أسمع سليمان مخاوفها..! فعلى الرغم من أن السورة تتحدث عن سليمان عليه السلام بالأساس وعن عدد من مواضيع العقيدة والإيمان، إلا أنها سميت ب "سورة النمل"!
وعجائب تلك السورة لا تتوقف عند عالم النمل، بل تشمل أيضا عالم الطير والهدهد الذي أكرمه الله أن أحاط بشيء لم يحط به سليمان، وجاءه {من سبأ بنبأ يقين}! وتشمل كذلك عالم الجن، وملكة سبأ، وتمكين الله لسليمان أن يأتيه {الذي عنده علم من الكتاب} بعرشها قبل أن يرتد إليه طرفه، وغيرها..!
من هنا نقول؛ إن أحد أهم خصائص «الحكم الرشيد» هو إهتمام الحاكم بأكثر فئات المجتمع ضعفا أيا كانت، والتعهد بحمايتها وإحترام ضعفها ومخاوفها وحقوقها..
للأسف، في وقتنا هذا، في ظل طبيعة الحياة السياسية الصاخبة بكل تروسها الدائرة بلا رحمة والتصارع المستعر فيها بين الكبار والأقوياء وأصحاب النفوذ والأموال، تضمئل، بل تختفي، مطالب وحقوق الصغار والضعفاء..
فعلى كل حاكم ومسئول أن يضع الأمور في نصابها، وأن يعدل، وأن يبدأ بالمهمل والضعيف، فلا أحد يدري من أكثر الناس دراية وعلما ومن أكثرهم كرامة عند الله..! ففي الحديث: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) [مسلم].
لن أتناول هنا الدراسات الحديثة عن عالم النمل، ولا عن ما كتب عن نظام الحكم «الملكي الديمقراطي» في مستعمرات النمل والعلاقة بين الملكة والشغالات والذكور، ولا عن النشاط العجيب والعمل الدؤوب والقوة الفائقة للنمل، ولا عن الإعجاز التصميمي والإنشائي في بناء النمل «لمساكنها»، فذلك موضوع آخر.!
* ملحوظة: في الوقت الذي ترصد فيه المعاهد العلمية والمراكز البحثية في العالم المتقدم مليارات الدولارات من أجل إجراء أبحاث متعددة على عالم النمل والطير والنبات، وعلى الماء والهواء، ومحاولات الحفاظ علي التوازن البيئي، ومحاولات توفير أكبر قدر من الرفاهية والصحة للإنسان، وغيرها.. الإنسان في بلادنا - خاصة الفقير والمهمش - ما زال يحاول إثبات أنه «مخلوق» له حقوق وكرامة، وأن من حقه أن يعيش دون إنكسار أو إذلال أو إهانة.. «مخلوق» كالنملة، ولكنه قد لا يدري حتى كيف يأكل من خشاش الأرض - أو يبني مسكنا - مثلها!..
كم يلزم بلادنا من الوقت والمآسي حتى ندرك تلك الضرورة البديهية -والحتمية- لحماية كرامة الإنسان وحقوقه..!؟
فلنبدأ إذن بمحاولة لفهم «مخاوف» النمل..!
0 comments:
إرسال تعليق