محمد منصور
أكثر ما يدعو للحزن في قضية الفيلم المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم هو ذلك القدر الغريب من الإنفعال والعصبية والعنف والتشوه الفكري الذي طغى على تعامل كثير من المسلمين مع الحدث - درجة هائلة من التشدد في الدين وإنعكاس الموازين وإنعدام الكياسة وغياب الحكمة في تناول الأزمة.
ففي الوقت الذي يقتل فيه بكل بشاعة مئات الأبرياء يوميا في سورية (وهم مسلمون حرمة دمائهم أعظم عند الله من حرمة الكعبة) لم يتحرك أو ينفعل المسلمون بمثل تلك الحمية لوقف المذابح الدائرة ضد إخوانهم وأهليهم لشهور.! وعندما ظهرت محاولة بائسة من قوم نكرات للإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم في صورة فيلم تافه -لا يستحق مجرد الذكر لا المشاهدة- ثار المسلمون وغضبوا أيما غضب بلا وعي ولا ضابط ولا رابط. وكأن غضبهم هذا سيمنع الإساءة أو يمحوها، وكأن فعلهم هذا سيحمي رسول الله، بل وكأن شيئا من تلك الإساءة سيصل أصلا إلى الرسول الكريم في مقامة المحمود عند الرفيق الأعلى.
للرسول رب يحميه : هيهات هيهات؛ والله ما وصل، ولن يصل، هؤلاء المغرضون لهدفهم المسيء، إيمانا منا بكلام الله تعالى الذي قال مخاطبا رسوله الكريم: {{إنا كفيناك المستهزئين}}، و قوله: {{والله يعصمك من الناس}}، و قوله: {{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}}، وغيرها من الآيات التي تؤكد حماية الله تعالي للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. كانت تلك عصمة الله للنبي في حياته، فما بالكم وهو الآن في دار خير من دارنا، في دار المستقر والرحمة عند رب العالمين؟
فكيف لمسلم مؤمن، على ثقة بربه ودينه أن يتصور، ولو لوهلة، أن تلك الإساءات والبذاءات ستنال من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأي شكل من الأشكال!؟ هذا عيب كبير في فهم المسلم لدينه، لا يصح.
إن كان هناك ضرر قد وقع من ذلك العمل الدنيء، فبمشاعر المسلمين، بإيذائهم في معتقداتهم ومقدساتهم.. ويؤكد ذلك قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى..}. ومحاولات الإيذاء تلك ليست جديدة؛ فلقد كان ذلك في عهد الرسول، بل وفي عهد كل الرسل والأنبياء، وبصورة أشد إجراما مما نرى اليوم. وهل يجهل مسلم ما تعرض له النبي وصحابته في مكة من المشركين من إستهزاء وإيذاء وإهانة وتعذيب لسنوات، حتى نجاهم الله تعالى ونصرهم بعد ضعفهم؟
وإنما بعثت رحمة : فما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك؟ هل كان من سنته -معاذ الله- السب واللعن والعنف والإنتقام؟ هل رفع يده على أهل الطائف أن يدمرهم الله بعدما أهانوه وقذفوه وأدموه؟ لا والله؛ بل كان أكثر الناس رحمة وأحسنهم خلقا، مع خصومة قبل ذويه، وكان يدعو لمن آذوه بالهداية (أن يخرج من أصلابهم من يقول :"لا إله إلا الله")؛ وبهذا أمر أصحابه وأتباعه. وإلا فكيف للمبعوث "رحمة للعالمين" أن يكون عنيفا أو لعانا أو فظا أو غليظا!؟ وكيف لعبد "الرحمن" الرسول الإنسان أن يكون كذلك؟ هذا أمر غير كائن.
وإليك مقتطفات من شرح المشكاة:
عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: "إني لم أبعث لعانا". أي ولو على جماعة مخصوصة من الكافرين.. لقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} "وإنما بعثت رحمة" أي للناس عامة وللمؤمنين خاصة.. ولقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال ابن الملك: أما للمؤمنين فظاهر، وأما للكافرين فلأن العذاب رفع عنهم في الدنيا بسببه، كما قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أقول: بل عذاب الإستئصال مرتفع عنهم ببركة وجوده إلى يوم القيامة. وقال الطيبي أي: إنما بعثت لأقرب الناس إلى الله وإلى رحمته، وما بعثت لأبعدهم عنها، فاللعن مناف لحالي فكيف ألعن؟ وروى عن أبي هريرة بلفظ: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا".
فلا عجب إذن من الحديث عن "الرحمة" في سياق الإساءة للمقدسات؛ انظروا إلى وصفه تعالى لنفسه سبحانه في كتابه الحكيم، وفي أمر من أكثر الأمور إساءة لله عز وجل، في قوله تعالى: {{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93)..}}. هل علمتم بإساءة لحرمات -(كما هو معتقدنا كمسلمين)- أعظم من ذلك؟ وهل هناك إساءة للذات الإلهية أعظم من أمر قال الله تعالى فيه: {{تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا}}!؟
وعلى الرغم من ذلك، وفي هذا السياق المسيء لله عز وجل (الذي كان يمكن التعبير فيه بصفات الغضب واللعنة والعذاب)، وصف الله تعالى ذاته العليا بإسم محدد من أسمائه الحسنى، "الرحمن" - دلالة لا تخفى. ويأتي ذلك التعبير الإلهي العظيم بالرحمة تأكيدا على المعني الهام الذي جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي)).
فالحمد لله تعالى الذي غلب رحمته على غضبه في التعامل مع مخلوقاته، ولولا ذلك لهلك البشر جميعا.
هذا هو الإسلام، وأخلاق السماء التي أوحاها الله للبشر عن طريق رسلة الكرام، تحتم على أتباعهم التعامل بها. وإلا فما فائدة أن ندعي إتباع الرسل ونحن نناقض أخلاقهم.
أما عن الإساءة لمقدساتنا من فئام ظالمين فلن يذهبوا من الله بمكان، وإن لم يتوبوا فما لهم من عقاب الله أمان. واقرأوا قوله تعالى: {{إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (58)}}.
دافعوا عن الدين بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة : لا ينبغي أن يخفى على مسلم أن محاولات إزدراء الإسلام وحرماته تهدف بالأساس تشويه صورة المسلمين أمام العالم بإستثارتهم وجرهم إلى مزالق التدني والفوضى، للظهور بمظهر الجهل والتخلف والهمجية. وقد أفاض كثير من العقلاء في شرح وتوضيح أن كل ذلك التصعيد والغضب -خاصة في زمن تكنولوجيا تناقل المعلومات- يعد ترويجا مجانيا لإساءة دنيئة لا تليق بديننا ونبينا، وإشهارا لنكرات ما استحقوا ذلك الإهتمام الإعلامي سلبا أو إيجابا.
وخير رد على ذلك يكون بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتعريف الناس بالرسول الكريم وبدين الإسلام، وبالتأسي بأخلاق الرسول في التعامل مع البشر، حتى يرى الناس أخلاقا تنشرح بها صدورهم لدين الله.
فكثيرون في هذه الدنيا لا يعرفون حرفا عن الإسلام، وعار علينا أن كل ما يعرفونه عن الإسلام يأتيهم في تغطية لأخبار العنف والفوضي والإعتداءات والقتل والعمليات الإرهابية، وباقي الأمور التي ينفر الناس من مجرد التفكير فيها..!
فلنقدم بضاعتنا للناس بصورة جميلة تليق بها؛ فوالله أنها لأغلى بضاعة، وإننا لأسوأ تجار.
وتذكروا قول الله تعالى: {{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم (5)}}، وقوله تعالى: {{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)}}.
وقل رب اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين.
0 comments:
إرسال تعليق