الجمعة، يناير 07، 2011

فاستوصوا بأهلها خيراً

بقلم: محمد منصور

المصريون جميعاً مطلع هذا العام في صدمة وألم وحيرة شديدة من حال الدنيا من حولهم بعد التفجير الغاشم بكنيسة القديسين بالإسكندرية، هم في حاجة إلى تفسير لما يحدث في وطنهم، وعلاج لمصابهم، وضمان لأمنهم. فهذه التفجيرات قد قتلت أبرياء لا ذنب لهم إلا أنه قد تصادف وجودهم أمام كنيستهم وقت تفجير خبيث مدمر يقتل الناس عِتيَّا ويقطع الأشلاء عِمِّيًّا بلا رحمة لإنسان أو حرمة لحياة.

مصر بلد الأديان، إستوطن في أرضها الدين وترسخ علي مر العصور، وامتزجت العقيدة بأرواح أهلها وحياتهم، وأصبح الإيمان جزءًا من كيانهم وهويتهم على ما فيهم من نواقص وعيوب كبشر، والإسلام آخر دين نزل من السماء، كان دخوله مصر ودخول مصر فيه حدثاً فريداً، فلقد كانت مصر بلداً للقبط تشبع أهلها بروح المسيحية السمحة ربما أكثر من أي أرض أخرى في ذلك الوقت، فكيف يقبل الأقباط بدين جديد بعد دين المسيح عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام ! بل إن كنيستهم أقدم من كنيسة الروم التي كانت تحكمهم، ورهبانيتهم هي أقدم رهبانيه عرفتها المسيحية شرقاً وغرباً. ولكن من حسن الطالع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد بشر بفتح مصر وقال: "فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحما"، فمنذ أن دخل الصحابة بالإسلام إلى مصر ما رأى أهلها إلا الخير والعدل والربانية الحقة علي أيديهم، فكلنا يعرف قصة القبطي الذي إشتكى ضرب إبن الحاكم المسلم له بالسوط لما سبقه، فما كان من عمر إلا إن رد له حقه وأمره بجلد إبن الأكرمين، وغير ذلك من أمثلة العدالة والرحمة التي تجسد روح الإسلام، فما كان من أهل مصر على مر السنين إلا إن دخل أكثرهم الإسلام طواعيةً ومحبة في هذا الدين دون إكراه بعد أن علموا أنه ودين المسيح قد خرجا من "مشكاة واحدة"، وإذا بمصر تصير داراً للإسلام كما كانت دارا للمسيحية، وأما من بقى على دينه فهو حر وله عهد وذمة، وما يصيبه أذى في حياته وكنيسته وأهله. هكذا كان المسلمون، وهكذا لابد أن يكونوا مرة أخرى.

ماذا نقول لله عز وجل يوم الدين في دم كل بريء مات أمام كنيسة الإسكندرية إن كان من قام بهذا القتل الغشوم مسلماً، وقد تبرأ الإسلام ممن يقتل الآخرين ظلماً وغدراً؟ هناك حقيقة نعلمها جميعاً ولابد أن تقال وتكرر، إن كل أعمال العنف والقتل والإرهاب، وكل أشكال الترويع والتهديد لأمن الناس في أي مكان في الأرض لا يمكن أبداً أن تنبت من تربة الإسلام أو تعاليم القرآن. فما أمر الإسلام إطلاقاً بأي قتل أو دمار ينزل بالناس فَزْعاً وهرجاً، فهذا يتنافى شكلاً ومضموناً مع كل مبادئ الإسلام الآمر بالدعوة لسبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والبر والقسط إلى الآخرين. لقد أساء هؤلاء الجناة - ومن سبقوهم بجرائم كهذه في أي بلد آخر - للإسلام أشد إساءة، ونفروا غير المسلمين من هذا الدين أشد تنفير، وهو ما نزل إلا رحمة للعالمين، فكيف يدعي أحد أنه ينتمي للإسلام ثم يقتل في خلق الله هكذا؟

على الرغم من عظم المصاب وخطورة الحدث وتوابعه إلا أن من دواعي الأمل وذهاب الألم والتئام الكلْم مشاهدة مظاهر الإتحاد والإلتفاف التي جمعت بين معظم المصريين، مسلمين ومسيحين، وإتفاقهم على الإنتماء الحقيقي لمصر، فهذه هي الفطرة السليمة وخاصةً في وقت المحنة، فأي عاقل يعلم أن ذلك التفجير هو عمل إرهابي ظالم يقصد به إيذاء كل أهل مصر لا المسيحيين فقط، وضرب إستقرار البلد كلها في وقتٍ تعددت فيه المشاكل السياسية والإقتصادية.

الأمل أن تستمر حالة الوعي والسماحة الدينية والوحدة الوطنية تلك بين كل المصريين في هذا الوقت الحرج، وأن يلتفت الجميع إلى إصلاح أوضاع البلد على كافة مستوياتها بما فيها المشاكل الطائفية المتراكمة، فلقد تأخرت مصر كثيراً، وآن الأوان أن تتقدم مرة أخرى حتى يرى هذا الشعب حياةً كريمة. وأصبح لزاماً على أصحاب السلطة السياسية في البلد الإستفادة من تلك الحالة المصرية الفريدة من الإنتماء الجميل لمصر وإستخدامها كطاقة دافعة لإحداث إصلاح حقيقي يشمل رجل الشارع ورجل الدولة، والمسلم والمسيحي، والفقير والغني - يشمل كل المصريين وليس فقط النخبة .. يا سادة: إن لديكم شعب طيبٌ طيعٌ على عمومه، يمكنكم أن تحققوا به نهضة حقيقية إن صدقتم في حبكم لهذا البلد .. !

كلمة للأمن؛ اتقوا الله في المصريين، لا تظلموا أبناءكم من البسطاء ولا تهينوا العامة من الفقراء، لا تأخذوا من تلك الحادثة ذريعة للبطش بكل من يختلف معكم في الرأي فيما يتعلق بإصلاح البلد أو في غيرها، لا تجعلوا الأمن "خوفاً" عليهم، لا تكونوا أنتم والفقر والإرهاب عليهم، وعلي مصر، .. و"استوصوا بأهلها خيراً" .. هذا هوالإصلاح إن اردتم إصلاحاً.

أكرموا المصريين تكرم مصر، وأحيوا المصريين .. تحيا مصر.

6 comments:

Ahmad يقول...

مقاله جميلة تنم عن وعي و تعبر عن حب صادق لمصر شعبا وتاريخاً.الإسلام دين رحمة و نبي الإسلام نبي رحمة عرف بالمحبة والصفح والعفو كيف لا و هو رحمة الله للعالمين. والإرهاب الأسود لا دين له.

أعتقد أن الحادث الغادر قصد به شق صف المصريين - ولكن الشعب المصري واعي... طيب بفطرته محب لربه محب لأهله.

وأرجو من كل المسلمين أن يعلموا أن حسن الخلق و حسن الجيرة و جميل الطبع ليس ضعفاً وانما هو روح الدين الحقة و هو ثقةٌ بالحق، تعالوا نكرم أهلينا ونكرم النصارى في مصر و نبرهم و نقسط اليهم - فهم معنا على الحلوة والمرة و هم أهل لنا و شركاء لنا. تعالوا نكرم مصر !

ليس الإسلام دين عابس ولا متشنج لا والله انما هو رحمة تسع الكل من أمن به ومن لم يؤمن به.

أرجو أن يفعل دور الأزهر الشريف فهو منبر الإسلام الصادق الوسطي.

وتحيه إجلال لفضيلة المفتي و فضيلة شيخ الأزهر.

انهضوا بمصر يا أهل مصر ولا تدعوا للعدا عليكم سبيلا.

Kareem Mosa يقول...

مقال رائع و كلمات موفقة و مؤثرة .... و لكن هل لازلت تعلق الآمال على السلطة السياسية و النظام القائم للإستفادة من تلك الحالة و تحويلها إلى طاقة دافعة لإحداث إصلاح حقيقي ؟!

Ahmad يقول...

تعليقاً على كريم - أخشى أن تتعامل الحكومة بفكر أمني بحت وتغفل المناخ السلبي الذي تسببت فيه في مصر والذي يتغذا على الفقر والجهل وضعف التعليم وضعف الإقتصاد و غياب العدالة بين أهل البلد وحجم الهوة بين طبقات المجتمع...

الحكومة تعتمد في الأزمات على طيبة الشعب المصري - ولكن "مش كل مرة تسلم الجرة" - الشعب أبرز معدنة الطيب - فماذا ستبرز الحكومة للنهضة الحقيقية بمصر - أم أنها ستكتفي بإذاعة "مشربتش من نيلها".

إذا توالت مثل هذه الأحداث الغادرة المدبرة بايد خبيثة بليل ستلتهم رصيد المحبة الذي يجمع بين أهل مصر وستقع الفتنة.

Kareem Mosa يقول...

هذا هو ما حدث فعلا فقد تعاملت الحكومة كالعادة بفكر أمني بحت و منعت تنظيم الوقفات التضامنية و التي كانت تهدف إلى التنديد بالحادث بحجة الخوف من " القلة المندسة " كالعادة ! علاوه على حملات إعتقالات موسعة كان من أبرز نتائجها ما تابعناه في الجرائد عن موت السيد بلال الذى لقى مصرعه نتيجة للتعذيب فى جهاز أمن الدولة حسبما قالت أسرته. و طبعا الجماعة بتوع "مشربتش من نيلها" شغالين إسهال الاغاني إللي بيتألف ويتلحن ويتغنى في يوم و اقلب .... و تحيا مصر

أبو عبدالله يقول...

حقوق الإنسان في الإسلام

أرجو قراءة الموضوع المرفق عن حقوق الإنسان http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showt
hread.php?t=232211

مقتطفات من الموضوع"وحدث أن ولداً لعمرو بن العاص والي مصر في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ضرب قبطياً بالسوط لأنه سابقه فسبقه، فاشتكاه عند الخليفة عمر، فأرسل الخليفة إلى عمرو بن العاص وابنه، فلما حضرا عنده سأل القبطي: أهذا الذي ضربك؟ قال: نعم، ولما توعدته بأن أشكوه إليك قال: "اذهب فأنا ابن الأكرمين"، فنظر عمر إلى عمرو بن العاص وقال قولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟" ثم ناول المصري سوطاً وقال له: "اضرب ابن الأكرمين"

غير معرف يقول...

الأخ العزيز م. محمد:

لم يعد اختلاف الديانة فقط هو أحد أسباب انهيار الوحدة بل تعدى الأمر إلى انهيار الوحدة الوطنية إلى داخل أفراد نفس الديانة. على سبيل المثال نجد السني و السلفي و الصوفي. وكل طائفة تتهم الأخرى باتهامات عقائدية تصل أحياناَ إلى التكفير. هذا بخلاف اتهام الطوائف السابقة للعلمانيين بالردة. هذا أيضاَ بخلاف التدين الظاهري الذي أصبح ظاهره لا يستهان بها. أعتقد أن الوحدة الحالية هي وحده مؤقتة أو وحده ظاهريه لا تختلف عن التدين الظاهري

محمد