الأحد، يونيو 09، 2013

كي لا تكون ثرثرة حول النيل..

محمد منصور

العقل نعمة وهبها الله تعالى للبشر، كي نعمله بالتفكر والتدبر في الأمور قبل أن نتبنى المواقف.. في قضية سد أثيوبيا التى طغت على الساحة مؤخرا، وبعد سقطة الحوار الوطني المذاع على الهواء بكل ما فيه من مساوئ، وبمتابعة ردود الأفعال العنترية والمنفعلة للموضوع برمته، لا يسعنا إلا أن نردد القول الشائع: "يا مثبت العقل والدين"!

يا سادة: أنزل الله تعالى الأمطار الغزيرة لآلاف السنين على هضبة الحبشة وبحيرات أواسط أفريقيا، وأجرى النيل وجمع روافده في السودان، وجعل آخره مرورا ومصبا في مصر. كل دول حوض النيل بإستثناء مصر غنية في موارد المياة والمراعي. مصرهي أدنى دول حوض النيل إسهاما في النهر وأكثرها إعتمادا عليه وإحتياجا له، بل لا يعود أي نفع من مصر على تلك الدول. الماء الذي هو مادة الحياة، والتربة الخصبة اللازمة للزراعة، كلاهما آتيان بفضل الله من خارج مصر، آتيان من جغرافية أثيوبيا وجنوب السودان وباقي دول حوض النهر. في أي عقل، وفي أي عرف سياسي أو دولي، يتم التعامل مع تلك الأزمة المعقدة بذلك الأسلوب الرديء ودعوات إستعداء شعوب وحكومات الدول التي يأتي ماؤنا من سمائهم وطيننا من أرضهم؟ بل ونذيع على العالم ذلك التناول الفاشل، والغير قانوني، والإستعلائي، في التعامل مع الأزمة!

وفي المقابل، عندما قام البعض بالدعوة للإعتذار لشعوب إثيوبيا والسودان عما بدر من إساءات في ذلك الحوار كمبادرة ديبلوماسية لجبر الخطأ وتلطيف الأجواء، إذا بصيحات الإستنكار والهجوم والبغضاء تتصاعد كالعادة..! ولا أدري كيف نعقل أو نقيس الأمور!.. نحن في موقع المتلقي لماء نهر عظيم لم نسهم فيه بشيء سوى إنه يأتينا، وفي ظل ظروف إقتصادية وسياسية وأمنية داخلية في غاية الصعوبة، وتدهور في الأوضاع، ثم يقوم البعض بإظهار المعاداة والإساءة لتلك الدول في خضم الأزمة، بل ويستنكرون الحلول الديبلوماسية.. أين الحكمة والمسئولية والواقعية..!

لم يقل أحد بالتهاون في حقوق مصر ومقدرات شعبها من قريب أو بعيد، ولكن إن لم نكن نعرف الفرق بين "الديبلوماسية" و"التهاون"، أو بين "الشفافية" و"فضح الذات"، أو بين "التشاور" و"الثرثرة"، فنحن في أزمة أكبر وأعمق مما نتصور!

قطعا إن شروع إثيوبيا في بناء السدود على روافد النيل الأزرق يمثل تهديدا عظيما للأمن المائي لمصر، ولكن العقل يحتم التعامل بديبلوماسية مع الأزمة. من دواعي الحكمة -حتى بإفتراض أن مصر دولة قوية لها هيبتها بين دول حوض النيل- لا ينبغي إستعداء من يأتي ماؤنا عبر أرضهم.

نحن نؤمن أن الله تعالى هو منزل الغيث، ولكن لحكمة يعلمها سبحانه جعل الماء يهبط بغزارة في أرض غير مصر، ثم أجراه إلى مصر وهي صحراء غير ممطرة حتى كتب التاريخ إن "مصر هبة النيل". أليس من العقل كسب الأخوة الأفارقة والتعامل مع الأمر بحكمة ومسئولية حقيقية بالتفكير في حلول (ديبلوماسية - وتكنولوجية - وإقتصادية) لتلك الأزمة بدلا من العنتريات الفارغة؟.. أليس من العار علينا أن تقوم شركات من آسيا وأوروبا وغيرها بالتقدم بالخبرات والمساعدات والإستثمارات لإثيوبيا في شتى المجالات، بينما مصر في موقف الخصم المستبعد الكسول ذي المطالب والشكاوى والتهديد والوعيد، بدلا من أن تكون صاحبة مبادرات حقيقية لمساعدة إثيوبيا، ودول القارة السمراء، في أمور التنمية المختلفة، والتي ربما لو كنا قد قدمناها في الماضي القريب لما تفاقمت مشكلة السدود من الأساس؟

أين ذهبت قوة مصر القارية، والتي كانت منذ ما يزيد عن قرن من الزمان الدولة الوحيدة في أفريقيا (ومن الدول القليلة في العالم) التي بها جامعات، ومصانع، وشبكات مواصلات، وخطوط سكة حديد، ومراكز تجارية وثقافية وحضارية..؟ مصر التي تبنت مساعدة دول القارة السمراء في سنوات نضالها الوطني؟ مصر التي ساهمت في تأسيس وإستضافة وتمويل المنظمات الإفريقية والإتحادات الرياضية المختلفة في القارة؟ مصر الأزهر والجامعة المصرية التي قدمت المنح التعليمية لأبناء القارة..؟ أسئلة تستدعي التفكر في إجابات شافية.. وعلى كل، لن تستطيع مصر تقديم أي مساعدات في ظروفها الحالية إن لم تنجح في تحقيق المصالحة الوطنية أولا، وهو موضوع آخر.

نهر النيل مثل شجرة عظيمة، جذورها في أفريقيا (إثيوبيا)، وساقها في السودان، وغصونها في مصر. هل يعقل أن نسئ لساقنا وجذورنا بدلا من التواصل المباشر معهم لفهم الخلل وعلاجه..!

مثل تلك الأمور، والتعامل الناجح مع دول حوض النيل، هي من صميم حماية الأمن "الوجودي"، وليس فقط (القومي)، فماء الحياة القادم من دول حوض النيل يحتم علينا حسن التعامل مع تلك الشعوب ومحاولة فهم دوافعها وإحتياجاتها، والعمل على الدخول الفوري في علاقات مباشرة وصديقة معها بتقديم خدمات حقيقية مقابل ضمان الأمن المائي القومي والذي لن تتنازل مصر عنه.

وكي لا تكون ثرثرة حول النيل، فلنحمي إذن ماء نيلنا بشِرْى خبراتنا وعرقنا. فماء النيل قد لا يعد هبة بعد اليوم..