محمد منصور
مات الأب، وأصبحت الأم الطيبة أرملة، ولديها ثلاثة أبناء. كان من الضروري وجود رجل آخر في حياتهم يحمي تلك الأسرة ويدير شؤونها وسط عالم ملئ بالطامعين والأشرار. قدر لها أن تتزوج من رجل قريب لهم ذي شأن. تصورت أنه سيكون المنقذ الذي سيرعى مصالحهم ويكون سترا لها ولأبنائها. إلا أن هذا الزوج سرعان ما تحول إلى طاغية مستبد ظالم، يعيش وينمو على إستغلال تلك المرأة المسكينة وأبنائها بالرغم من صلة القرابة بينهم، فحرمهم من كل الأموال والخيرات التي ورثوها عن الأب الفقيد، وفرض عليهم العيش في ذل ومهانة. وكلما تجرأ أحدهم لطلب شيء من حقوقهم إنهال عليه بالسب والضرب والإهانة، ووصل به الأمر أحيانا إلى إستخدام قوته وسطوته في حبس وتعذيب كل من يجرؤ منهم على مقاومته أو إعتراضه.
كان الإبن الأكبر صاحب النصيب الأكبر من التعرض للظلم حيث كان أقدمهم وأكثرهم مقاومة، وتعرض إلي أشكال من العذاب لسنوات حتى وصل إلى حالة من اليأس، وإلى قناعة بعدم جدوى مواجهة زوج الأم والإنتظار حتى يأتي فرج من عند الله. أما الإبن الأوسط فقد رأى ما ألم بأخيه الكبير، فآثر الصمت، وبمرور الوقت، تعلم أن ينافق ويساند زوج الأم الظالم أملا في تجنب شروره وطمعا في الحصول على شيء منه مقابل ذلك، فنجح في تأمين حياة لا بأس بها وسط تلك الظروف القاسية.. الإبن الأصغر كان أكثرهم حيرة ودهشة؛ فكان يرى كل من حوله وقد تحولوا إلى أشباه أشباح؛ فها هي الأم، لا يدري ما حملها على الزواج من ذلك الرجل الظالم والصبر عليه، ولماذا لا تنطق وتقول له إتق الله في وفي أبنائي؟. هل تحبهم فعلا أم أنها متواطئة معه عليهم؟. فينظر إلى حالها الذي يرثى له فيتأكد أن المسكينة ضحية مثلهم - بل أكثر منهم - إلا أنها مقهورة لا تقدر على شيء، تخاف الأسوأ من ظلم الدنيا وظلم الناس، فتؤثر الصمت الأليم مع هذا الزوج اللئيم؛ وها هو الأخ الأكبر، الذي يكن له كل الإحترام، قد شاخ مبكرا من ظلم تجربة حزينة أعيته، وأوقعته أسيرا لأحلام ضاعت مع ماضي جميل قد ذهب وأب رحيم قد مات، فأصبح غير قادر على تقبل معطيات الحاضر أو تصور أن هناك أمل آخر لجيل آخر يختلف كلية عما يحلم به هو ويتمناه؛ وينظر الإبن الأصغر إلى الإبن الأوسط، فيرى إنسانا قد ضعف أمام الإغراءت وشرى نفسه بثمن بخس بعد أن خاف من خطر المواجة والأهوال التي ستنهال عليه كما حدث مع أخيه الكبير.. وكانت الأم من شدة خوفها تعاتب الإبن الأكبر على مقاومته لزوجها الظالم، ولا تثني الإبن الأوسط عن ذلك الخنوع المهين له!.
... ... ...
إحتار الإبن الأصغر!. وتساءل: من مثلي الأعلى في هؤلاء؟. وكيف بي أن أقلد أحدا منهم وهذا هو حالهم؟. ماذا حدث لأسرتنا الجميلة، ولماذا بالله نحن لسنا كباقي الأسر التي يعيش فيها الآباء والأبناء في راحة وسعادة، وفي إحترام ومحبة وكرامة متبادلة، لا يهين أحدهم الأخر؟. هل هذا حلال لهم حرام علينا؟.. إختار الإبن الأصغر الهروب من شبح ذلك الواقع الأليم، فحاول اللجوء إلى عالم الخيال الجميل فلم يرى سوى أوهاما أخرى لا تعطي حلولا، ولا تغير شيئا مما يرضاه لهم زوج أمهم.. ثم بحث عن مخرج، فلم يرى سوى "كسر" حاجز الخوف المنيع الذي بناه حولهم زوج أمهم، بناه بينهم وبين حريتهم ليقزم أحلامهم. فولدت له إرادة - دون أن يدري - فقرر التمرد المشروع، ليس فقط على زوج الأم الظالم، بل على فكر الأم المستكين، وفكر الإبن الأكبر (المناضل القديم) صاحب الأحلام الضائعة، وفكر النفاق والتبعية للإبن الأوسط. تمرد على "ظلم" من يكره وعلى "فكر" من يحب من أجل من يحب - من أجلهم جميعا. فقام، وترك فيهم الخوف واليأس والخنوع، وذهب مباشرة إلى زوج الأم يصيح ثائرا غاضبا: أعطي أمي حقها، رد لأخي الأكبر حقه، حرر أخي الأوسط من تبعيته وعبوديته.. رد إلينا جميعا كراماتنا أيها الظالم.. لن يحول بيني وبين مطالبي اليوم سوى الموت، أقتلني إن شئت!.
ذهل زوج الأم، بل صعق من ذلك، فهذا الشاب الصغير كان أخر من يخشاه، وقد كان يحسبه تافها نكرة.. وتعجب الأخ الأكبر من شجاعة أخيه الأصغر! ولم يدري، أيفرح بتلك الفرصة ويشارك، أم يستحي من إتباع الصغير. وتأفف الأخ الأوسط من جرأة أخيه الصغير، ورفض فعلته خوفا من زوج أمه وطمعا في الإستقرار. أما الأم، فخافت كعادتها، ولم تفلح محاولاتها لمنع إبنها الغالي من الوقف ضد الزوج الظالم، فجلست منهارة تبكي وتدعو الله.. وإذا بالإبن الأصغر يتجاهلهم جميعا، وكأن لا تأثير لهم، وأستمر في مطالبه بكل ثبات داعيا أخويه للوقوف معه. وقام زوج الأم مفزوعا يعتدي علي الشاب الصغير، ومن شدة وحشيته هوى بعصاه بكل قوة على رأس الشاب فجرحه وأسقطه أرضا.
ولكن الشاب القوي سرعان ما قام متحديا والدماء تسيل من رأسه وقد قويت إرادته وإشتدت عزيمته وإزدادت ثقته بنفسه، فإذا بزوج الأم يهتز من تلك الصلابة والشجاعه العجيبة، وسارع الأخ الأكبر بالإنضمام إلى أخيه الصغير، وقاما معا بمواجهة زوج أمهما. لم يستطيع زوج الأم الظالم مواجهتهم معا، وبدأ ينهار أمام الجميع.. طالبه الإبن الأصغر بأن يطلق أمهم بعد أن فعل بها الأفاعيل، وأن يتركهم ويرحل فورا حتى يصلحوا حال تلك الأسرة البائسة. حاول زوج الأم جاهدا تدارك الموقف، فأكد على إحترامه للجميع - خاصة للإبن الأصغر - وعلى إستعداده لإصلاح ما قد فسد، ولكن لم تنفعه كل التنازلات التي قدمها بعد أن جاءت متأخرة، فرفضوا، وازدادوا توحدا وقوة.
... ... ...
أما الإبن الأصغر فشعر بالمرارة والغصة في حلقة، وتساءل: كيف تفعلون ذلك!. دعوكم مني ومن أحلامي؛ كيف بالله عليكم ترضون بعرض كهذا وتأمنون رجلا قد ظلمكم عمرا طويلا، ما أدراكم أن يغير وعودة ويأخذ حقوقكم مرة أخرى، أو أن يوهمكم أنكم قد خسرتم نصيبكم في تجارتكم!؟.. ولم يتنازل ذلك الشاب الصغير عن مبادئه وتمسك بكامل مطالبه، فإذا بالإبن الأكبر يقف ليدافع عن زوج الأم، ومعاتبا أخيه الأصغر على إستمراره في طلب إنفصال الرجل عن أمهم في هذه الظروف. وقال الإبن الأوسط لأخية الأصغر: كفاك، لقد نغصت علينا حياتنا جميعا، وكدرت عيشنا، وأقلقت راحتنا، ماذا تريد بعد ذلك.. أمجنون أنت؟
إزدادت دهشة، أو قل "صدمة" الشاب الصغير. ولكن سرعان ما استفاق، فكيف يندهش وهؤلاء هم أنفسهم من قد تمرد عليهم وعلى أفكارهم. ولولا توفيق الله له في بادئ الأمر في موقفه القوي ضد زوج الأم - ضد رغبة الجميع - لكانوا الآن جميعا لا يزالون أسرى في عهد الظلم القديم. وأقسم أن يستمر في طلبه المشروع حتى يخلص أمة وأسرته من حال الظلم والمهانة..
فقام، وترك فيهم الخوف واليأس والخنوع.. ولم يفقد الأمل، فالماضي قد رحل، والمستقبل يمد له يده مبتسما.